نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: من الجولاني إلى الشرع… تحولات الجهاديين - جورنالك اليوم الأحد 15 ديسمبر 2024 02:17 مساءً
قبل سنوات، وإبان قيادة «أبو محمد الجولاني» لـ«جبهة النصرة» كان الرجل يظهر بمظهر متشدد، كان يحرص على الظهور في زي رجل دين معمم، وكان أحياناً يظهر بالعمامة والزي العسكري معاً، ويظهر أحياناً ممسكاً بسلاحه، بين رجال ملثمين من عناصر جماعته، وكان يحرص على إظهار جانب القوة والفتك، قبل أن يظهر أخيراً في لباس بسيط غير متكلف، حاسر الرأس، كأي شاب سوري منسجم مع تقاليد العيش في مجتمع منفتح، في إيذان برحيل «أبو محمد الجيلاني» وميلاد «أحمد الشرع» وهو الاسم الحقيقي لزعيم «جبهة النصرة» التي تحولت عام 2016 إلى «هيئة تحرير الشام» التي انفصلت عن تنظيم القاعدة، والتي ذكر الشرع أنه ربما يحلها، بعد إنجاز مهمة «الثورة» في إشارة إلى إرادة التحول إلى «دولة» بالتزامن مع التحول الشكلي من «الكنية/أبو محمد» إلى «الاسم/أحمد» ومن لقب «الجولاني» إلى لقب «الشرع» حيث تشير «الدوال اللغوية» إلى مغزى التحول عن شكليات التنظيمات الجهادية التي غالباً ما تميل للكنى والأسماء التنظيمية، لغرض التخفي، وهو الغرض الذي آن الأوان لتخطيه، بعد كل هذا الظهور العلني الذي مرَّ به الشرع والهيئة.
لم تكن مؤشرات التحول مقتصرة على ما سبق، بل تضمنتها لغة خطاب أحمد الشرع قائد «إدارة العمليات العسكرية» أو زعيم «الهيئة» الذي كان قائد «الجبهة» الذي ظهر على شاشة «سي أن أن» مؤخراً، مستعملاً لغة يندر سماعها في الخطاب الجهادي، عن «دولة المؤسسات» و«تعايش الطوائف» وعن الرغبة في إقامة علاقات طيبة مع الخارج، وعن سوء فهم لشرائع الإسلام لدى كثير من المسلمين، علاوة على حديثه عن «تسييس تهمة الإرهاب».
وفي اللقاء، رفض الشرع سياسات الانتقام والثأر، ودعا للتسامح والتصالح والتعايش، بلغة هادئة وأداء لغوي وإعلامي مميز، مع بساطة وعدم تكلف وحرص على إحداث انطباع بالتغيير الذي أجراه على نفسه وعلى الهيئة التي يتزعمها.
وقبل الظهور الإعلامي الأخير للشرع وبعد هذا الظهور ضخت وسائل الإعلام مشاهد كثيرة، ظهر فيها عناصر مقاتلة، وهم يطمئنون مواطنيهم المسيحيين في حلب، متكفلين بحراسة الكنائس هناك، مباركين للمسيحيين بأعيادهم. كما رأينا عناصر أخرى يعيدون الإسماعيليين الذين هربوا من بيوتهم، يعيدونهم إلى منازلهم، ويسألونهم: هل اعتدى أحد عليكم؟ هل سُرق شيء من منازلكم؟ ورأيناهم في السويداء يحتفلون ويرددون الأهازيج مع مواطنيهم الدروز، وفي الساحل السوري يطمئنون العلويين بأن أحداً لن يعتدي عليهم، ثم يهتف الجميع: «واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد» تجاوباً مع تصريحات زعيم «هيئة تحرير الشام» أحمد الشرع الذي قال لتلفزيون «سي أن أن» إن جماعته تبذل قصارى جهدها لتخبر المسيحيين والأقليات الدينية والعرقية الأخرى، أنهم سيعيشون بأمان تحت حكمه، ضمن «دولة مؤسسات» تضمن تعايش الطوائف والأديان التي تعايشت «في هذه المنطقة منذ مئات السنين».
ومع تدفق مقاتلي «هيئة تحرير الشام» إلى المدن السورية المختلفة لم نرهم يتسببون في موجات نزوح، بل حصل العكس، حيث عاد آلاف النازحين إلى مدنهم وبلداتهم، كما رأينا هؤلاء المقاتلين يفرجون عن سجناء رأي سجنوا لأكثر من أربعين سنة، ورأيناهم في الطرقات والشوارع العامة يساعدون الناس، في أمور حياتهم اليومية، بل إن الأهالي استقبلوا هؤلاء المقاتلين المنتمين لمنظمة مصنفة على أنها «إرهابية» بالزغاريد والأهازيج، فرحاً بقدومهم، ما يعيد النظر في مصطلحات سادت فترة طويلة، من مثل: «إرهابي، تكفيري، داعشي» التي يبدو أن مصطلحات أخرى ستحل ـ أو حلت ـ محلها، في وسائل الإعلام، مثل: «معارضة مسلحة، ثوار، فصائل» إذ تخضع المصطلحات والمفاهيم لإعادة النظر، ضمن حراك المحتويات المفاهيمية التي تخضع لكثير من المؤثرات السياسية التي أشار إليها زعيم هيئة تحرير الشام، عندما ذكرأن على العالم أن يحكم على جماعته من خلال «الأفعال لا الأقوالـ«.
ما الذي جرى حتى يتغير الخطاب وتتغير الممارسات إلى هذه الدرجة؟ هل هو تغير مفاجئ؟ هل هو تغير حقيقي وعن اقتناع، أم أن المسألة مجرد نوع من «الخداع الذي تمارسه الحركات المتطرفة، لكي تعطي صورة لها مختلفة عن صورتها النمطية»؟، حسب كثير من خصوم الجهاديين والحركات الإسلامية على وجه العموم.
أما أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع فقد أشار في مقابلته مع «سي أن أن» إلى مراحل تطور مر بها هو وجماعته أدت إلى تجاوز الأفكار الجهادية التي كانت لدى تنظيم القاعدة الذي أعلن الجولاني انفصاله عنه، من قبل، حيث أرجع الشرع الأمر إلى تحولات يمر بها الإنسان على مستويات عدة، فـ»الشخص في العشرينيات من عمره ستكون له شخصية مختلفة عن شخص في الثلاثينيات أو الأربعينيات من عمره، وبالتأكيد شخص في الخمسينيات من عمره…هذه هي الطبيعة البشرية».
وقد اعتبر الشرع أن ممارسات بعض المجموعات المتطرفة «خلقت انقساماً» بين هيئته والجماعات الجهادية الأخرى، وقال إنه رفض بعض الممارسات التي قامت بها بعض المجاميع، وهو الأمر الذي أدى إلى قطع علاقته بهم، نظراً لرفضه تلك الممارسات، وخاصة الهجمات على المدنيين التي ذكر أنه يرفضها ولم يشترك فيها.
كل تلك المعطيات تشير إلى تحولات، أو على الأقل، محاولات للتحول مدعومة بسياق اجتماعي سوري يرفض من الأساس التطرف، ويميل إلى نوع من التدين الروحاني التقليدي البعيد عن «الآيديولوجيا الدينية» التي يقوم عليها فكر التنظيمات الجهادية المختلفة، وهو مجتمع يراهن الكثيرون على أنه يستطيع احتواء وتليين موجات التشدد التي تعتبر دخيلة على الوعي الديني المجتمعي المتكئ على التدين التقليدي، وهو الأمر الذي سيحتم على تلك التنظيمات إجراء مراجعات، ضمن توجهات جهادية جديدة، يمكن أن يطلق عليها «الجهادية البراغماتية» التي يمكن أن يمثلها أحمد الشرع الحاكم الفعلي الجديد لسوريا.
ومع الإشارة إلى الأداء البراغماتي للجهاديين الجدد إلا أننا لا ينبغي أن نغفل عن حقيقة أن التجارب القاسية التي مرت بها التنظيمات الجهادية قد أنضجت لديها فكرة المراجعات، بعد أن أدت ممارساتها وأفكارها السابقة إلى خسائر فادحة وهزائم متلاحقة منيت بها تلك التنظيمات في أماكن مختلفة، ناهيك عن فقدانها التعاطف الذي كانت تحظى به لدى بعض المجتمعات المحلية.
ومن أفغانستان إلى العراق إلى سوريا يبدو أن تلك التنظيمات قد اكتسبت مع الزمن والتجارب خبرات أخرى أكثر تأثيراً من الخبرات القتالية، وهي الخبرات التي أدت إلى تحولات تبدو عميقة في فكر وأداء تلك التنظيمات، مع تحللها من خطاب «الجماعات المسلحة» واقترابها من خطاب «الدولة المسؤولة» وهو الهدف الذي لم يخفه أحمد الشرع، عندما تحدث عن «إسقاط النظام» وإقامة «دولة مؤسسات» سورية، وفي ذلك إشارة إلى التركيز على الداخل السوري وهمومه، في محاولة للتحول عن التفكير الجهادي التقليدي الذي ينطلق من «عالمية الجهاد» وهو الأمر الذي أدخل التنظيمات الجهادية المختلفة في معركة مفتوحة مع معظم دول العالم، والذي أثر سلباً على تلك التنظيمات، وهو ما يحاول الجيل الثالث من الجهاديين تفاديه، مستفيداً من تجارب الجيلين السابقين: الأفغاني والعراقي، وما مرّا به من تجارب أليمة كانت ـ ربما ـ سبباً من أسباب التحولات العميقة التي ظهرت على الجيل الثالث من الجهاديين في سوريا.
0 تعليق