اليمنيون وفَهم الواقع السياسي - جورنالك

0 تعليق ارسل طباعة

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: اليمنيون وفَهم الواقع السياسي - جورنالك اليوم الأحد 5 يناير 2025 09:49 صباحاً

من أفدح الإشكاليات المتجذرة في وعي اليمنيين سياسياً عجزهم عن فهم معطياته، وغموض أبعاده، وتشتت مواقفهم تباعاً لذلك العجز الذي أوقعهم في الكثير من الأفخاخ والحيل، لأن الأس الوطني غائب، والثوابت الجمهورية منعدمة، ولذا فغياب القيم الثابتة المتعلقة بحقيقة الوطن طبيعي، فليس هناك خطوط حمراء وإنما مجرد ظروف سياسية وتحولات عابرة تجعلهم ينجرفون هنا وهناك دون احتساب العواقب أو خشية الإخفاق رغم التظاهر بعمق الفهم وقوة الإدراك .

لعب هذا الاختلال دوراً محورياً في صلب الوعي السياسي اليمني منذ لحظة الميلاد الأولى للجمهورية في 26 سبتمبر، وما تلاها من أحداث متعاقبة كانت تعصف بالمشهد السياسي برمته، وتحدث تحولات تغير المواقف وتقلب الرؤى وفقاً لمصالح ذاتية أو نظراً لتأثيرات منحرفة عن البوصلة الحقيقية لقيام دولة نظام وقانون وعدل ومساواة، تأثيرات اجتماعية قبلية أو إيديولوجية أو دينية أو بدوافع خارجية تمعن التدخل في رسم واقع سياسي تتحكم فيه وفق إرادتها .

على امتداد ستة عقود جمهورية نجد أن التجربة السياسية اليمنية كانت قائمة على تناقضات غريبة وتحولات أكثر غرابة، لم تصنع نخباً سياسية مدركة لمستقبلها السياسي أو مجتمعاً يعي مصالحه ويتبع طرق تحقيقها، وإنما كان هناك قطيعة بين الوعي الفردي النخبوي والوعي الجمعي الجماهيري، حيث التيه يهيمن على مسار الأحداث ويشتت السعي لفعل وطني يزيل ذلك الانقسام والتشظي ويوحد رغبة المجتمع لمعرفة حقيقة حاضره ومستقبله .

في هذه العقود كانت لحظة الوعي السياسي الوطني الحقيقي تلك التي برزت في حصار السبعين في 67م، لحظة رفع شعار " الجمهورية أو الموت" فكان الانتصار حليفاً لذلك الوعي رغم حجم التحديات وفارق القوة بين الإماميين والجمهوريين، لكن استشعار خطر الرغبة المتخمة بوأد الجمهورية شكل لدى اليمنيين هزة وطنية لاختيار الموقف الصحيح.

وإبان تلك اللحظة السياسية المشرقة تم زحزحة تأسيس بنية وعي سياسي، ودك مداميكها، فغابت المفاهيم والرؤى وهيمن النفوذ وغُيب التفكير، وترسخت اللامبالاة، أهمل اليمنيون بعد المصالحة الوطنية في 1970 عدائية الفكر الإمامي لهم وتغيير استراتيجيته المتغلغة في مفاصل الجمهورية، وانشغالهم بالصراع السياسي بين ذا وذاك.

فحين نشبت ثورة التغيير في 2011 كان الجميع يتسابق للوصول إلى السلطة ومن ضمنهم الحوثي الذي كان يحيك الخطط والتدابير للانقضاض على الكل، واستغلال ذلك الوعي السياسي المضطرب للنخب والمجتمع لبلوغ غايته كما حدث في انقلابه المشؤوم .

الصدمة الحقيقية التي ندفع ثمنها اليوم أن معظم اليمنيين ساسة وعامة اعتبر ذلك الحدث مجرد فعل سياسي إيجابي سيعمل على طي صفحة الإصلاح مثلاً، وستعود الأمور إلى نصابها فور إنجاز مهمته، حتى من تحالف معه كيداً دفع ذات الثمن، الأخطر من كل هذا أن استيعاب اليمنيين حينها وفهمهم له كان سلبياً للغاية وسطحياً لدرجة إفساح الطريق له وتمكينه من التمدد الذي مر عليه للآن عقد من الزمن.

ولو تسألنا اليوم بعد انكشاف خيوط اللعبة واتساع حجم المؤامرة وتغلغل المكائد والأحقاد وضياع الوطن في زحمة هذا الانزلاق الخطير: هل وعي اليمنيين السياسي قادر على استيعاب حقيقة الواقع، ومتمكن من تحديد موقف والانحياز لخيار استعادة وطن حقيقي، أما مازال غارقاً في ذات سياق اللامبالاة والمغامرة بموقف نابع من وعي قاصر ورؤية سياسية مختلة جلبت له الكثير من المساوئ والإخفاقات؟.

وإذا ما أمعنا النظر في دراسة فهم اليمنيين لواقعهم السياسي لأدركنا حجم الكارثة ولهالنا مستوى التخبط المتفشي والتسطيح المستفحل الذي يعقد الواقع أكثر ويطيل أمد البقاء في طاحونة الضياع، وبما أن صورة هذا الفهم على هذه الشاكلة سنجد أن العقلية السياسية اليمنية كلاسيكية متخمة بالولاء المطلق والتعصب المتطرف والتبعية العمياء والتسليم المبتذل دون أعارة الفكر والمنطق وميزان الوعي المتفحص أي اهتمام، والاستناد على شعارات زائفة يتم ترديدها دون أدنى تدخل أو قياس في كشف هويتها.

ومن هنا فإن السمات الأربع هي من دمرت بنية الفهم وخلفت وراءها قطيعاً فجاً بجحاً يصر على ادعائه امتلاك كبد الحقيقة وقدرته على تمييز ما يضره وما ينفعه، وبناء مواقفه على ضوء هذه الاختلالات التي عطلت مستوى الفهم وجعلت اليمنيين يتخبطون خبط عشواء وسط واقع سياسي مضطرب.

حين يتقين هذا الفهم أن الحوثي صاحب الحق في السلطة، وأنه بطل قومي يناصر غزة، وأن الوقوف معه واجب ضد استهداف الصهاينة للبنية التحتية اليمنية، وأن إمطاره تعز بوابل من القذائف والهجمات فعل مشروع في نفس اللحظة التي تقصف فيها صنعاء.

إن مساواة الإمامة بالجمهورية ومساواة دولة شرعية بعصابة مليشياوية جريمة بمبرر الفساد وتدهور الوضع، وتقبل موجات التطرف والانغلاق المجتمعي على حساب وسطية الدين وحرية الفرد رجعية، هدم القيم الوطنية والرموز النضالية والتقليل من شأن الثوابت الثورية معضلة، التسامح مع الفساد والجريمة والتغاضي عن الظلم واستلاب حق الآخر انعدام مسؤولية.

كثير من الشواهد الي يصعب حصرها تؤكد أن فهم اليمنيين للواقع السياسي الذي يعيشونه فهماً إشكالياً متأزماً مبنياً على دوافع رجعية وطائفية ومناطقية وتشطيرية وأيديولوجية دينية متطرفة وقبائلية عصبوية وحزبية تنظيمية وولاءات شخصية وعمالة وارتزاق ومصالح فردية، واختلاق تبريرات حمقاء تعزز أبعاد هذا الفهم ومساراته، وانعكاسه على تثبيت صوره المتعدده كواقع ملموس يصنعه الفهم ويعزز حضوره أكثر من كون الفهم عملية منفصلة تابعة له كما هو معتاد في دول وشعوب أخرى خرجت من هذه البوتقة، واستطاعت تحديد مصيرها وتحقيق إرادتها بوعيها وتجربتها وثقافتها وخبرتها في رسم ملامح خياراتها السياسية.

ومن هنا فالواقع السياسي المتشابك ليس هو العقدة فالأكثر تعقيداً منه هو اختلافات لا نهائية لفهمه وإدراك حقيقته، التي تعطل حالة العثور على حلول لفكفكته وزحزحة مخاطره، ولذا فإن اختلافات فهمه لم تقتصر على عامة الشعب- الذين يفتقدون المشاركة في هذا الواقع - بل تسربت إلى النخب الفاعلة والقيادات السياسية التي تتزعم تمثيل الواقع وتحاول الظهور كمسؤولة عنه؛ فسنجد أن أفعالها السياسية وأطروحاتها وبرامجها تعاني من ذات الخلل، وحين يتم استدعاؤها من قبل القوى الدولية والإقليمية لتقديم وجهات النظر ومقترحاتها تجدها متأزمة تفتقر لأي تصور منطقي وفهم واضح وصريح وجدي مبني على مسؤولية وطنية وقيم جمهورية وإنما تجدها تعيش نفس التأزم الذي يعيشه أتباعها.

ولذا فلابد أن نهشم وجه هذه الإشكالية الكبرى في القضية اليمنية من خلال تغيير نمطية الخطاب الإعلامي الذي كان المساهم الأكبر في صنعها كخطاب حكومي رسمي أو خاص أو فردي نخبوي أو شعبي جماهيري في السوشيال ميديا، لتنمية الوعي السياسي وتنقيح زيفه وترسيخ خطوط كلية ثابتة يجب التمسك بها كجزء من هوية وطنية سياسية تسبق أي فعل سياسي، وأي توجه وأي ممارسة كالمبدأ الجمهوري، وتجريم العمالة الخارجية والارتزاق، والإيمان بدولة النظام والقانون ونبذ التعصب والتطرف والملشنة، والتمرد على قيم الدولة واحترام مؤسساتها، والتأكيد على حرية الفرد والتعددية والديمقراطية وحرية التعبير والفكر، هذه الأسس يجب أن تشكل مرجعية جوهرية، بناء عليها نستطيع فهم واقعنا السياسي وسلوكنا الاجتماعي، وما دون ذلك سنبقى ندور في نفس دائرة منظومة العقد التاريخية والاجتماعية والدينية والماضي المتشرنق الذي جعلنا نهدر كل الفرص في بناء دولة مدنية فيها تعددية وحرية وتنمية واستقرار وسلام أو مجتمع متحضر ديمقراطي خال من العصبوية والمناطقية والطائفية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق