«غربنة» تحتفي بفضاءات المراعي وتعرّي شرور الحداثة - جورنالك في الأحد 11:35 مساءً

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: «غربنة» تحتفي بفضاءات المراعي وتعرّي شرور الحداثة - جورنالك في الأحد 11:35 مساءً اليوم الأحد 19 يناير 2025 11:35 مساءً

شُرُفات ينيرها التأمل والأخيلة المغمّسة بدقائق واقعية.. تفيض دهشة وغرابة، نحط الرحال في مدياتها بينما نطلق عنان أسفارنا في فضاءات وعوالم معمار رواية الأديبة الإماراتية، د. فاطمة البريكي، «غربنة بقلم الغراب»، المحتفية بأسحار الجمال البكر والفطرة الإنسانية الخيّرة في ثنايا سرديات ماتعة جوهرها سيرة فتاة نقيّة السريرة تطوّقها الحسرات والعذابات منذ الولادة، فتغشى العتمة مسارات حياتها حتى وهي ساكنة محايدة تُقيم في جنائن بياض قلبها وسط مجتمع وطبيعة وادٍ هانئ تنثال فيه ترانيم الكائنات غنّاءة حبلى بألوان وسكبات الألفة، حيث تحوك الكاتبة في حضرة هذي الأجواء والأحوال قوالب وتنويعات روائية بانورامية حافلة بالإسقاطات والتشابكات والرمزيات اللمّاحة، تؤثثها سياقات ومديات حكائية شائقة، غُزِلت خيوطها بلغة جزلة بسيطة تخلو من اتجاهات الإطناب أو الإفاضة والتزويق وتَعمر بالروي الشفيف النابض خلاصات محبة.. المنتصر للجمال والصفاء والمركوز إلى غايات/ أوتاد تعرية متتاليات شرور مشهودة في عصرنا تُوغل في حجب نصوع قيمنا الإنسانية وحَرفِ وتزييف أبجديات مبادئنا وسموتها، ذاك بينما أنها تتقمص، كذباً وزوراً وبهتاناً، أردية حجج التطور والعصرنة، فتروح تمعن في الانتقاص من قيمة وألق عادات وتقاليد مجتمعاتنا ورونق جذورنا.

كوات فرح

تبرع روائيتنا في تشكيل إيقاع ومبنى حكايتها لتتمظهر متكاملة تترنق بأشكال الجذب.

ويبدو لافتاً أنها، بموازاة هذي المروج، لا تَغفل عن قيادة دفة السرد بمهارة كي تبقيه عامراً بنهوج وبوصلات التصوير الأدبي البليغ الجاذب، الخالي في طياته من صيغ الخطب الوعظية أو الخشبية.. وكذا من حبائل ونسائج التوصيف الزائدة الموتدة إلى أغراض التنكية والتبهير الروائي المتماشي مع موجة «ما يطلبه القراء.. سعياً لتحقيق انتشار وشعبية أكبر للعمل».

قراءات كثيرة ونوافذ متباينة الإطلالات تنفحنا إياها فاطمة البريكي وهي تقودنا في دروب تتبع سيرة بطلتها «المغربنة»، التي نفطن ونحن نشارف على تتبع خواتيم خيوط سيرتها، أننا لم نعرف لها اسماً كون الكاتبة لم تسمها أصلاً. إلا أنها أتقنت قودنا لننغمس في نسيج حكاية تلك الفتاة بلا كثير مقدمات وتسميات.

لا تتوقف أراجيح وفصول الذهول والدهشة التي نختبر منذ الصفحات الأولى للرواية، حيث تنثال منعكساتها ومنعطفاتها.. ومفاجآتها، عاتية طافحة بأحزان تنهش فؤاد تلك الفتاة، لا لسبب أو لذنب اقترفته، وإنما لصفاء روحها ورفعة خلقها، وسط مكائد وجفوة وكراهات جُلّ من يحيطون بها، وكذا حالة النبذ والقهر والحقد والمقت التي تلقاها من أمها، المرأة القوية المتسلطة، المتيمة بالذهب.

وما يؤجج الأمر ويزيد طعوم المرار، الوسط الاجتماعي الخانق الذي يعتمل فيه جور وظلم كبيران بحق المرأة، إلى جانب استحكام إفرازات سلبية عديدة للتقدم والتطور العصريين غدت تفسد كينونة الناس وتعكر صفو الحياة المجتمعية وهي تتنكر وتلوذ بأقمطة الحداثة والتغيير الإيجابي.

تحت هذي العناوين نرتحل في مسالك الروي «المغربن» إلى عوالم مخضبة بالألم تحيق بابنة الوادي المألومة المحكومة بالمعاناة منذ لحظات ولادتها الأولى، والتي نجدها، رغم ذاك العذاب الراعف، مصرة على صنع الفرح وثقب جدران اليأس والظلمات لفتح كوات الأمل.

إذ تنكب، عقب بلوغها، على صوغ مرابع الجمال في حياتها، متحدية حسرات وعراقيل الواقع.

فتشرع في تلذذ صفحات ومدارات حياتها فور أن تصبح راعية تسرح بالقطعان، وتحوّل هذي الحال والمهمة اليومية، فرصة ومتنفس بهجة وبسم وإحساس بقيمة الوجود، فتروح تعانق ومضات مرح المراعي وشموخ الجبال.. وترتوي من ينابيع واديها وتتشمم أعطار زهره وهي تتنعم برفقة صديقتيها الراعيتين.

يبدو فعل القراءة أثناء انغماسنا بمتواليات السرد ههنا، كما أسفار فرجة وتفكرٍ وصفوٍ أمام مشاهد لوحات أخاذة نجدنا مندغمين بعمق في كينوناتها التي تستقر بنا حيث تلتمع نجمات جمال ونقاء صداقة فتيات ثلاث، يترنمن بأبجديات الطبيعة وأغنيات القطعان وأناشيد الفطرة الإنسانية وبهاء الصدق والمعرفة البكر المنبثقة من قريحة جمالية تثوي في دواخلنا لا تتكشف لنا إلا حين تشف أنفسنا وتتسامى.

وفي هذي المدارات.. ومع كل مطرح ومتواليةٍ جديدين ضمن ثنيات السرد، تضعنا الكاتبة أمام توليفات وأفكار وتصرفات شخوص تتنوع اتجاهاتها.. تتصارع.. تتناقض.. تتكامل. بعضها يسكنه الشر المحض والآخر يلتمع محياه بالخير، بينما يترنح ويتأرجح الثالث (الآخرون) بين هذا وذاك.

وترسم لنا البريكي في هذي الأسفار والمحطات، تفاصيل أحوال وصفات وأفعال وآثار كل شخصية بأسلوب بديع، عاقدة مقارنات ذكية تطالعنا خلالها شخصيات جمة في محيط عائلة «فتاة الوادي»، وعلى رأسها، والدتها الشرهة للمال المكترثة بالسحر والمسكونة بالحقد، والعم ناقم، الرجل القاسي الذي يحوله التزامه المبالغ به بالعادات والتقاليد «قاتلاً» يودي بحياة ابنته العزيزة بسيلة، الصديقة الحنونة والمفضلة لدى بطلتنا «المغربنة».

وهناك، أيضاً، فتنة، المرأة الشريرة الماكرة التي تتسبب لها بمصيبة الانفصال عن زوجها حبيب. ذلك إضافة إلى مجموعة كبيرة أخرى من الأشخاص، منها: ابنة عمها (عميرة)، شقيقة زوجها (البثنة)، بخيت مساعد حبيب.

تغرُف الكاتبة من معين سعة معرفتها واقتدارها اللغوي وهي تسكب وتنسج دقائق روايتها.

إلا أن المتبحر في العمل سيتثبت، بلا ريب، أن هذا المعين ليس وحده ما أمدها بملكات الاقتدار في حبكات مشاهد رويها الفسيفسائي، وإنما أيضاً، جملة تقاطعات واقعية ومواقف معيشة شكلت وصاغت أسحار سرد أخاذ، نقلّب معه، بنهم، صفحات سيرة فتاة مولودة لرجل مسلوب الإرادة لا كلمة له أمام زوجته، ضمن مجتمع ريفي تقلق هناءاته وسكينته أرواح شريرة عديدة، خاصة الأم (أم البطلة) التي كرهت ابنتها منذ لحظة ولادتها وتشاءمت منها ورفضت أن تربى في كنف الأسرة.

وهكذا تترعرع الفتاة وتنشأ عند جدتها. وحين تصبح بالغة واعية، تعود إلى منزل الأسرة، فتجعلها الأم راعية وتغرس في نفوس الجميع مشاعر الكره والنفور منها، بحجة أنها مصدر شؤم وخراب وشرور ماحقة قادمة.

وفي هذا المسار الذي اختارته وقررته الأم الشريرة للفتاة، تنبت زروع الفرح والبشر في حياة الأخيرة، فتشرع تنهل من عيون البهجة وسط المراعي وعلى الدروب بينما تسابق الغيمات وتصدح بصوت عالٍ يردده الوادي وتتلقفه صفحات الجبال.

ولكن الأيام تأبى أن تديم المسرات في حياة بطلتنا.

إذ تنبلج تربصات الخبائث بها متزيّية بحلل جديدة مبتدؤها بهيج، إذ تصفو أيامها قليلاً بينما تسوق الأقدار إلى عوالمها وحياتها، رجلاً مترفاً أنيقاً، يدعى حبيب، صادفها حين كان يزور القرية، فتعلق قلبه بها وطلب يدها للزواج، حيث قبلت الوالدة وأرغمتها على الموافقة.

وكان حزنها شديداً لهذا الزواج الذي تم سريعاً، لكنها لا تلبث أن تشعر بالراحة بعد أن وجدت شريك حياتها دمثاً خلوقاً، شاغله، وهو الغني المترف، أن يوفر لها حياة مرفهة فاخرة.

وهكذا، تنقلب حياة الراعية المغربنة، إلى حالٍ لم تكُ تتصورها حتى في الأحلام، تتكلل برفقتها أخت زوجها «الرائعة».

إلا أن شهور الصفاء، بل أيامه، لا تمتد كثيراً في حياتها، كما العادة، فها هي تكتشف أن حبيب يقع في نوبات صرع مرعبة، ويحتاج إلى شخص يكون بجانبه، كتومٍ يحفظ السر.

ولكنها لا تستسلم، فتجدد بريق ديدنها وتصوغ قصة الفرح من عميق المأساة، إذ تروح تبهج وتستمتع بمساعدتها زوجها ووقوفها جانبه، ومن ثم تغدو فرِحَة كما العصفورة حين يحقق لها حبيب رغبتها بلقي التعليم وقراءة الكتب.

تتوالى الأيام، فتصبح معلمة «فتاتنا»، فتنة، التي جلبها لها حبيب، مصدر فرح جديداً لها، إذ تلهمها وتعجبها كثيراً لمستوى علمها ولأناقتها وجمالها.

ولكن هذي «الفتنة»، ستكون الخنجر الذي يطوح بقامة سعادة «الراعية المتمدنة»، بعد أن تحوك مؤامرة خبيثة توقع حبيب إثرها بحبائلها فتتملك قلبه.

إذ، وبعد مضي وقت قصير على إنذار ساقته لها الغربان التي أصبحت تزور المدينة ومقر سكن الزوجين، (ولم تكُ تفعل قبلاً - كما قال حبيب لها -)، تُفاجأ البطلة بزوجها يطلب منها أن تتحضر وتجهز أغراضها للسفر إلى أسرتها كي تقضي معها وقتاً طويلاً، ويحدث ذلك بلا إنذار أو حديث سابقين بينهما.

ورويداً رويداً، تتكشف لها خيوط المؤامرة «الفتنية»، خاصة وهي تقرأ رسائل شقيقة زوجها، التي كانت أنذرتها قبلاً من هذه المرأة. تعود بطلتنا إلى قريتها وإلى كنف أسرتها التي أترفت بفضل حبيب وأمواله، وتبدأ قصة أسى وقهر جديدة تحيق بها.

ويوماً بعد آخر، تخرج «المغربنة» من تلك الشرنقة بفضل حياة الراعية التي تعود إليها عقب أن تقرر الأم ذلك. فتطفق ترتسم حينها مسارات أخرى في حياتها، عرفانية نوعاً ما، تصحب فيها بطلتنا الغربان.. وتعتزل الحياة فتقيم بكهف وحيدة لفترة طويلة، رفقة هذي الغربان التي تجدها صديقة والأقرب إلى قلبها.. بل مصدر الفرح والراحة في حياتها.